سرت موجة على مواقع التواصل حول بعض الفتاوي وأدلى كل بدلوه في تسفيه أصحابها وسبهم وكان النصيب الأوفى من هذه الحملة لعوام المتدينين لا لخواص العلماء.
وطبعا هذا يدل على مدى ما وصل إليه تفكير عوام المتدينين من إسفاف. حتى ظنوا أنهم هم حماة بيضة الدين والموقعون عن رب العالمين.
وهذا ما دعاني إلى كتابة هذه السطور بعد انتهاء الحملة الغاشمة وسكون العاصفة الغائمة لعل الهدوء بعد العاصفة يسمح بشيء من التفكير العلمي المتجرد ليتبين الشباب طريقهم إن أحبوا أن يسلكوه.
وألخص الكلام جدا حتى لايذهب المقصود منه:
أولا: الفتاوي الشاذة موجودة من قديم حتى بين أهل العلم انفسهم . ولها أسبابها التي لعلي ارجع مرة أخرى لبيانها.
** ولعلنا نذكر فتاوي العالم الكبير ابن حزم الأندلسي وهي لو قيلت في عصرنا من ابن حزم لجعله مجتهدو الفيسبك مُثلة وعبرة لغيره! ومنها اختصارا فتواه بأن الطائف بالبيت يجعل البيت على يمينه لا على يساره. وأن التبرز في الماء الراكد لا ينجسه وإنما ينجسه البول فقط. وان البكر إذا أعربت عن موافقتها على خاطبها لا يعد ذلك إذنا لأن إذنها صماتها.
* كما أنه صاحب الفتوى بجواز إرضاع الكبير وأنها تحرم(وهو مذهب عائشة رضي الله عنها).
** ومن ذلك ما ذكره ابن عابدين قال: "قال في الملتقط: الغلام إذا بلغ مبلغ الرجال ولم يكن صبيحاً فحكمه حكم الرجال، وإن كان صبيحاً فحكمه حكم النساء، وهو عورة من فرقه إلى قدمه. (حاشية ابن عابدين: 1/438).
وغير ذلك من الفتاوي التي عدها العلماء - وليس مجاهدو الفيسبوك - شاذة.
هذا عن العلماء الراسخين .. فكيف بطلاب العلم والشُّداة فيه؟ أو من عرف بتخصص في أبواب محددة من العلم كدكاترة الجامعات الشرعية مثلا. لاشك ستجد الكثير من هذه الفتاوي.
ومن أمثلة ذلك:
* فتوى الشيخ محمد عبده بجواز أكل ذبائح أهل الكتاب وإن خالفت طريقة الذكاة الشرعية كأن قتلت ضربا أو لوي عنقها حتى ماتت. (وهي المسماة بالفتوى الترنسفالية) وقد وافقه عليها ابن عاشور مفتي تونس وجماعة من هذا العصر. ولعل مرجعها إلى فتوى لابن العربي الفقيه المالكي بجواز أكل دجاجة نصراني لوى عنقها حتى ماتت.
* فتوى إرضاع المرأة الكبير البالغ إذا كان زميلها في العمل حتى يخرجوا من مخالفة (الخلوة) وهي فتوى افتاها د. عزت عطية أستاذ ورئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر. وهي راجعة إلى فتوى عائشة وابن حزم.
* فتوى د. يوسف القرضاوي بأن المسيحيين مؤمنون ونقول لهم إخواننا المسيحيين لأن الله يقول (إنما المؤمنون إخوة) قال: "البعض ينكر علي هذا كيف أقول إخواننا المسيحيين؟ {إنما المؤمنون أخوة}، نعم، نحن مؤمنون وهم مؤمنون بوجه آخر". (برنامج الشريعة والحياة حلقة بعنوان غير المسلمين في ظل الشريعة الإسلامية تاريخ 12/10/97 في قناة الجزيرة).
* فتواه بأن العداوة بيننا وبين اليهود من أجل الأرض فقط لا من أجل الدين. وأن قوله تعالى: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا}؛ أن هذا بالنسبة للوضع الذي كان أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وليس الآن. (الأمة الإسلامية حقيقة لا وهم: ص 70 - ط1، 1407، وكذلك: برنامج الشريعة والحياة، حلقة بعنوان الصراع بين المسلمين واليهود، بتاريخ 7/12/97.)
* فتواه بإباحة الغناء والمعازف والتمثيل ومتابعة الأفلام. وواضح من تطبيقه العملي أنه لا يستثني حتى الهابطة منها بدليل أنه صرح بأنه يتابع أغاني "فايزة أحمد" و "شادية" و"أم كلثوم" و "فيروز" وغيرهن. ويتابع الأفلام والمسلسلات والمسرحيات، كفيلم "الإرهاب والكباب" لـ "عادل إمام" - وفيه استهزاء بالمتدينين – و"ليالي الحلمية" و "رأفت الهجان" وأفلام "نور الشريف" و"معالي زايد" غيرهم. (جريدة الراية القطرية، عدد 5969، تاريخ 19/جمادى الأولى1419). وهذا مشهور عنه.
* فتوى الشيخ الغزالي رحمه الله بجواز أن تتزوج المراة الثيب بدون إذن وليها. وهو قول ضعيف عند الأحناف.
* فتوى الشيخ الألباني بتحرم لبس الذهب المحلق للنساء. وهو قول حكاه ابن الجوزي وأظنه رجحه. وهي مشهورة.
* فتوى الشيخ أحمد شاكر رحمه الله باعتبار الحساب الفلكي في الصيام والفطر. وهو قول ابن سريج وحده من أصحاب الشافعي وتبعه عليه جماعة بعده.
ويندرج تحت هذا بعض الفتاوي الشاذة في وقتنا هذا من مشاهير الشيوخ مثل:
* فتوى د.ياسر برهامي بجواز أن تكذب المرأة على زوجها الذي يمنعها من الذهاب للجنة الانتخابات لتنتخب مرشحا بعينه.
* فتوى د. محمد عبد المقصود بجواز أن يسرق الأخ بطاقة والده إذا كان يعلم انه سينتخب أحد (الفلول) لمنعه من ذلك.
(وطبعا فتاوي هذا الرعيل كثيرة ومنها طامات فهي الفتاوي ذات البلاوي)
والمقصود هو أن الفتاوي الشاذة صدرت عن علماء سواء مجتهدين على الإطلاق أو مجتهدين في بعض المسائل. وأقول هذا لأقرر أن عامة الناس وطلاب العلم لم يتكلموا في هذه الفتاوي ولم يجعجعوا بإنكارها وسلب أصحابها كل صفات العلم بل والدين. ولا يجوز لهم ذلك بحال حتى إن سكت العلماء فهم أولى بالسكوت، بل كلامهم جريمة علمية واعتداء يجب عليهم التوبة منه.
وإنما يتصدى لها العلماء بأدب العلم وأدب الخلاف وبمعرفة مأخذ الفتوى ومناقشته.
(كما فعل ابن أبي شيبة في مصنفه إذ أفرد بابا لشذوذات فتاوي الإمام أبي حنيفة ، وصنع مثله الإمام البخاري في صحيحه إذ افرد كتابا سماه كتاب الحيل على شاكلة ما فعله ابن ابي شيبة وكذلك فعل الشافعي في الرد على الوزاعي (وهو أحد الكتب التي ضمنت كتاب الأم وغيرهم).
فإن حدث غير هذا - وقد حدث للأسف - فقد ولدت الأمة ربتها وتطاول الحفاة العراة العالة رعاء الشاة في البنيان وانقلبت موازين الكون وهذا من أشراط الساعة. وربنا يستر.
(ولي عودة إن شاء الله لاستكمال الموضوع)